هل يعيد الذهب تاريخه؟ بين رئاسة ترامب الأولى والثانية
- د.علي الراوي

- May 4
- 8 min read
في السوق، لا تتحدث الأموال... بل تصرخ حين تخاف.وفي السياسة، لا تُقاس الوعود بوزن الكلمات، بل بوزن الذهب في الخزائن.
ما الذي يجعلنا نعود كل مرة إلى الذهب؟في كل أزمة، في كل رعب، في كل انتخابات مصيرية، نُفتّش عن المعدن الأصفر كمن يفتش عن جذوره الأولى…كأننا، في عمق لا واعٍ، نرفض الاعتراف بأن المال الورقي يكفينا.
الذهب ليس سلعة عادية.إنه خلاصة التاريخ النقدي، وذاكرة الإنسان حين كان "القيمة" تُستخرج من الأرض، لا تُطبع في البنوك.هو ما يُشتَرى حين يفشل الكلام، وما يُخزَّن حين تفقد الدول مصداقيتها.
وفي رئاستين لرجل واحد، اسمه دونالد ترامب، تحرك الذهب مرتين…لكن الحركة لم تكن مكررة، بل كشفت كيف تغيّر العالم، وتغيّر الناس، وتغيّرت العلاقة مع المال نفسه.
ففي عام 2017، راقب السوق ترامب كظاهرة سياسية غير مألوفة، فجاءت حركة الذهب مترددة، أقرب إلى التذبذب بين الخوف والأمل.أما في عام 2025، فلم يكن السوق يراقب ترامب، بل يراقب العالم وهو يتفكك، والمؤسسات وهي تتآكل، والعملات وهي تفقد احترامها.
هذا المقال ليس مقارنة بين رقمين…بل هو قراءة في المزاج العالمي، وفي عقل المستثمر الذي أصبح يثق بالمعدن أكثر من النظام.دعونا نبدأ الرحلة من البداية…
أولاً: الذهب في ولاية ترامب الأولى – 2017

ذهبٌ في مرآة الوعد... لا القلق
عندما أدى دونالد ترامب اليمين الدستورية رئيسًا للولايات المتحدة في 20 يناير 2017، لم يكن الذهب هو العنوان الأبرز في السوق.العنوان كان: "هل سينجح ترامب؟"
الرجل الذي جاء من خارج المؤسسة السياسية، والذي وعد بتفكيك العولمة، وإعادة المصانع، وفرض ضرائب حمائية، وخفض هائل في الضرائب، كان صدمة للمؤسسات المالية… لكنه كان أملًا لكثير من المستثمرين التقليديين.
الذهب في تلك اللحظة، لم يكن يواجه أزمة عالمية، ولا فقدان ثقة شامل بالنظام المالي، بل كان أمامه مغامرة سياسية غير مألوفة.وبالتالي، لم تكن حركته انعكاسًا لفقدان الأمل، بل ترقّب مشوب بالحذر.
ثلاث مراحل شكلت حركة الذهب في 100 يوم:
1. صعود قلق – من يناير إلى منتصف فبراير
بدأ الذهب بالصعود تدريجيًا كرد فعل طبيعي على التوتر السياسي، إذ لم يكن أحد يعرف ما الذي سيحدث: هل سينفذ ترامب تهديداته؟ هل سينسحب من اتفاقيات كبرى؟ هل سيصطدم بالفيدرالي؟هذا الخوف المبكر رفع الأسعار من حدود 1,210 إلى قرب 1,260 دولار.
لكن هذا الصعود لم يكن عميقًا أو هستيريًا. بل كان أشبه بارتفاع "احتياطي"، كما لو أن السوق يقول: "دعونا نرى أولًا."
2. تراجع الثقة بالخوف – من منتصف فبراير حتى أواخر مارس
مع مرور الوقت، بدأت الأسواق تستوعب أن الإدارة الجديدة تسير على طريق "منضبط ماليًا"، على الأقل في الشكل:خفض الضرائب، خطط تحفيز، دعم الشركات، تحسين مؤشرات النمو… كلها خطوات أعادت الثقة مؤقتًا.
هنا بدأ الذهب بالتراجع، متخليًا عن مكاسبه السابقة، ليعود إلى مستويات قريبة من بدايته.لم يكن هذا هروبًا من الذهب… بل عودة للرهان على المؤسسات.
3. موجة ارتداد مترددة – أبريل حتى بداية مايو
لكن السوق لم يلبث أن دخل في موجة شك جديدة، حيث بدأت التصريحات المفاجئة من ترامب، خاصة تجاه السياسة النقدية، واشتدت التوترات الجيوسياسية (خصوصًا مع كوريا الشمالية).الذهب صعد مجددًا، لكن الصعود هذه المرة كان بلا نفس طويل، ثم عاد ليهبط، وكأن السوق يقول:"نثق… لكننا نراقب."
الفهم الأعمق لحركة الذهب في 2017:
في تلك الحقبة، لم يكن الذهب يقف في مواجهة نظام منهار، بل كان يناور داخل نظام يتغير.لم تكن هناك أزمة تضخم… بل وعود بنمو.لم يكن الدولار ضعيفًا… بل في أوج قوته.ولم تكن الثقة مفقودة… بل كانت قيد التفاوض.
لذلك، كانت حركة الذهب انعكاسًا لعقلية استثمارية مرنة ومتفائلة نسبيًا.كان المستثمر يتنقل بين الذهب والأسهم، بين التحوّط والمغامرة، كما لو أنه يجرّب ببطء، ويعود كل مرة إلى حاضنته المالية القديمة.د.
ثانيًا: الذهب في ولاية ترامب الثانية – 2025

صعودٌ هادف… يقوده الخوف المتراكم
حين عاد ترامب إلى البيت الأبيض في بداية 2025، لم تكن الأسواق تنظر إليه كرئيس مثير للجدل فقط، بل كمجرد تفصيل صغير في مشهد عالمي أكبر… مشهدٍ تسوده الشكوك، والقلق، والانكشاف التام للمؤسسات.
منذ اليوم الأول، بدأ الذهب رحلة صعود عنيفة، لكنها ليست عشوائية.التحرك لم يكن نتيجة لحدث بعينه، بل جاء كمحصّلة لذاكرة طويلة من الصدمات:
أزمة التضخم العالمية بعد الجائحة.
موجات الإفلاس البنكي المفاجئ.
تصاعد التوترات الجيوسياسية شرقًا وغربًا.
تآكل الطبقة الوسطى في معظم الاقتصادات المتقدمة.
وتزايد الحديث عن العملات الرقمية الحكومية كوسائل "مراقبة" أكثر من كونها "حلولًا".
هذه التراكمات صنعت بيئة نفسية وسلوكية جديدة:العالم لم يعُد يثق، بل يهرب... والهروب كان باتجاه الذهب.
لماذا لم يتردد السوق هذه المرة؟
في 2017، احتاج السوق لأسابيع حتى يحدد موقفه من ترامب.أما في 2025، فقد كان الموقف محسومًا منذ البداية:
لا أحد ينتظر قرار الفيدرالي.
لا أحد يتفاءل بخطط النمو.
لا أحد يراهن على عودة الاستقرار سريعًا.
المستثمر لم يذهب إلى الذهب طلبًا للأرباح… بل لأن كل شيء آخر أصبح مخاطرة.
الذهب يعود ليقود المشهد… لا ليحتمي خلفه الآخرون
في السابق، كان الذهب يلعب دور "الملاذ المؤقت"، يُشترى عند الأزمات ويُباع عند الهدوء.لكن في 2025، تغيّر هذا الدور بالكامل:
أصبح الذهب قاعدة ارتكاز جديدة للثروات، وليس مجرد ملاذ.
أصبح يقود حركة السوق، وليس فقط يتأثر بها.
وأصبح يُسعَّر على أساس نُدرة الثقة، لا وفرة السيولة.
حتى البنوك المركزية بدأت تعامله كأصل استراتيجي…لا لربحه، بل كضمانة للبقاء في حال فقدت العملات قيمتها.
الرسالة التي كتبها السوق بلغة الذهب:
"نحن لا نثق… لا بالنظام، ولا بالمستقبل، ولا بالورق.نريد شيئًا حقيقيًا… نريده الآن… واسمه: الذهب."
ثالثًا: المقارنة – من زمن التذبذب… إلى زمن اللاعودة
أن تنظر إلى الرسمين البيانيين جنبًا إلى جنب، لا يعني أنك ترى خطين فقط…بل ترى قصة انتقال حضاري من عصرٍ كان فيه الذهب خيارًا ثانويًا، إلى عصر أصبح فيه الذهب مرجعًا أوليًا للنجاة.
في 2017، كانت الأسواق تتأرجح بين التفاؤل الحذر والخوف المؤقت.ترامب حينها بدا رئيسًا صادمًا في خطابه، لكنه لم يكن كافيًا لإقناع السوق بأن النظام كله مهدد.الذهب ارتفع… ثم انخفض… ثم ارتفع مجددًا، كما لو أنه يراقب من بعيد، لا يتدخّل إلا عند الحاجة.
أما في 2025، فالمشهد تغيّر بالكامل.السوق لم يكن يتعامل مع ترامب وحده، بل مع عالم مجهد، فقد بوصلته، ولا يثق بشيء.لم يعد هناك وقت للتردد… ولا مجال للتجريب.الذهب لم يكن يتحرّك كأصل مالي، بل كصرخة استغاثة من نظام يفقد السيطرة.
الفارق الجوهري بين الفترتين: ليس فقط في السعر... بل في عقلية السوق
في 2017، كان المستثمر يسأل:"هل أشتري الذهب الآن؟ أم أنتظر بيان الفيدرالي؟"أما في 2025، فهو يسأل:"كيف أُخرج مالي من النظام قبل أن ينهار؟"
في 2017، الذهب كان وسيلة دفاع…أما في 2025، أصبح وسيلة هروب استباقي.
في 2017، التذبذب كان سيد الموقف.بينما في 2025، نشهد ما يُشبه تيارًا عالميًا من الوعي الموحّد تجاه الأصول الحقيقية.
ذهنيًا… انتقلنا من عقلية الربح إلى عقلية البقاء
في 2017، السوق كان ما يزال يثق بالدولار، يتوقع تدخل الفيدرالي، يتفاعل مع التصريحات، يراهن على الاستقرار.لكن في 2025، السوق لم يعد يراهن على أحد.الثقة تحوّلت من المؤسسات إلى المعادن، ومن الخطابات إلى الأوزان، ومن الشاشات إلى الخزائن.
هذه ليست مقارنة بين فترتين زمنيتين فحسب…بل هي مقارنة بين منظومتين ماليتين، ونمطين من التفكير، وفلسفتين مختلفتين للثقة.
وبالتالي… فإن ما نراه في الذهب ليس طفرة، بل تحوّل بنيوي
تحوّل في طبيعة العلاقة بين الإنسان والمال.
تحوّل في تعريف "الأمان المالي".
تحوّل في رمزية الذهب: من مجرد أداة تحوّط… إلى رمز للرفض الصامت لنظام لم يعد مقنعًا.
رابعًا: ماذا ننتظر؟ هل هذا مجرّد ارتفاع… أم نعيش ولادة نظام نقدي جديد؟
الذهب لا يتحرّك وحده.بل يتحرّك حين يبدأ الآخرون بالتوقف.حين يتعثر الدولار، وحين تفقد المؤسسات وزنها، يبدأ الذهب بنهضته الصامتة.
السؤال الحقيقي لم يعُد: "هل الذهب سيواصل الارتفاع؟"بل: "ما الذي يدفع العالم إلى إعادة اكتشاف الذهب بعد كل هذا الزمن؟"
الجواب باختصار: لأن العالم فقد ثقته بالبدائل الأخرى.
ضعف العملات… وسقوط الورق المغطى بالوعود
خلال العقود الماضية، عاشت البشرية على وعود الطباعة، وعود البنوك المركزية، وعود الحكومات التي تقول: "اطمئنوا… النظام تحت السيطرة".لكن مع كل أزمة، كانت تلك الوعود تفقد وزنها.ومع كل انهيار بنكي، أو أزمة تضخم، أو حرب تجارية، أصبح الناس يتساءلون:"من يُصدر هذه النقود؟ وبأي حق؟ وما قيمتها الحقيقية؟"
أصبحت النقود الورقية رمزًا للسلطة أكثر من كونها رمزًا للقيمة.ولم تعُد الشعوب تملك الثقة في قيمة ما بيدها، خصوصًا بعد أن أصبحت الأموال تُضخ بقرارات إلكترونية في ثوانٍ، دون إنتاج مقابل، ودون غطاء.
وهنا… بدأ الناس يتطلّعون إلى ما لا يمكن تزييفه.
عودة الذهب… ليست مجرد ملاذ، بل إعادة تعريف للمال
البنوك المركزية لا تشتري الذهب فقط للتحوّط… بل لأنها تعلم أن اللعبة تتغيّر.
الصين وروسيا والهند وتركيا، كلها تكدّس الذهب بصمت.
بعضها بدأ بتسعير عقود النفط والسلع بعملات بديلة… بل وحتى بالذهب.
هناك من يختبر إمكانية إنشاء نظام عالمي جديد... يستند إلى الذهب، لا إلى الدولار.
والمفارقة أن ما يحدث اليوم هو ما حاربه النظام المالي الحديث منذ تأسيسه: العودة إلى الأصل، إلى الذهب، إلى ما لا يمكن التلاعب به.
في هذا السياق، لم يعُد الذهب فقط ملاذًا من التضخم، بل ملاذًا من فقدان المعنى.
إلى أين نتجه؟
قد نشهد مرحلة انتقالية طويلة، يتراجع فيها الإيمان بالعملات الورقية، وتُطرح فيها بدائل رقمية حكومية، لكنها ستظل مكشوفة أمام الشكوك.
قد نشهد ازدهارًا في تجارة الذهب كوسيلة تبادل فعلية، خاصة في الأسواق المضطربة والدول التي فقدت ثقة شعوبها بعملاتها.
وقد يظهر جيل جديد من المستثمرين والمؤسسات لا يثق إلا بما هو "ملموس"... وهذا سيُحوّل الذهب من مجرّد أصل استثماري إلى محور منظومة مالية جديدة بالكامل.
اللحظة الحالية ليست لحظة ربح… بل لحظة وعي
ما نعيشه الآن ليس صعودًا سعريًا فقط.بل هو صعود فكري، اقتصادي، وفلسفي.لحظة يسأل فيها العالم نفسه:"هل نملك المال فعلاً… أم نملك مجرد وعود مطبوعة على ورق هش؟"
وكلما زاد هذا السؤال، زادت قيمة الذهب… حتى لو لم ترتفع أونصته في الأسواق.
خامسًا: الخلاصة – حين نطق الذهب بصوت العالم
الذهب لم يكن يومًا مجرّد معدن.إنه الذاكرة الجماعية للنظام المالي، والملاذ الأبدي حين تفقد العملات شرعيتها الأخلاقية.ما رأيناه في الرسمين ليس مجرّد اختلاف في السعر… بل اختلاف في الزمن نفسه.
في عام 2017، كانت الأسواق لا تزال تؤمن أن الأخطاء يمكن إصلاحها، وأن النظام المالي رغم عيوبه... لا يزال متماسكًا. كان الدولار صامدًا، والبنوك المركزية تُصدر بياناتها بثقة، والمستثمرون يتنقّلون بين الأسهم والذهب كما يتنقّلون بين المزاج والتوازن.
لكن في عام 2025، تغيّر كل شيء.لم يعُد الذهب مجرد خيار بديل، بل أصبح الخيار الأخير.خيار الشعوب التي لا تُجيد التحليل المالي، لكنها تُجيد شمّ رائحة الخطر.
في 2025، لم تكن الحركة في السوق تقودها مؤشرات الاقتصاد الكلي… بل مشاعر العالم:
الخوف من التضخم،
الشك في النظام البنكي،
السأم من تكرار نفس الأخطاء،
والقلق من أن الطبقة السياسية لم تعد قادرة على ضبط هذا الوحش الورقي الهائج.
المستثمر اليوم لا يسأل فقط: كم ربحي؟بل يسأل: أين أضع مالي حتى لا ينهار غدًا؟
وهذا هو التحول الخطير. لأن هذه ليست عقلية الربح... بل عقلية الهروب من الخسارة، وهي عقلية إذا سادت، فإن الذهب لا يصعد فحسب، بل تُعاد صياغة مفهوم "المال" من جديد.
بين الذهب والورق: نهاية عصر؟
لم يعد الذهب يُقاس بالسعر فقط، بل بما يُمثله:
يُمثّل الندرة في عالم مملوء بالتخمة.
يُمثّل الحدود في عالم بلا سقف للطباعة.
يُمثّل القيمة الجوهرية في نظام قائم على القيمة التخيلية.
في المقابل، الورق – مهما كان ملوّنًا أو مزخرفًا – فقد احترامه.لأن الناس، حين يرون حكوماتهم تطبع المال بلا حدود، يدركون أن ما في أيديهم هو وعدٌ هشّ… لا وزن له.
ماذا يعني كل هذا؟
نحن لا نعيش فقط فترة صعود في سعر الذهب…بل نعيش بداية تصدّع في البنية الذهنية للنظام المالي العالمي.
عندما تشتري البنوك المركزية الذهب، فهي لا تتنوع… بل تُحصّن نفسها من السقوط.
عندما تُصبح الشعوب مستعدة لحمل الذهب والفضة وتبادلها، فاعلم أن المال الورقي دخل مرحلة الغروب.
ليس غريبًا أن نرى في السنوات القادمة:
عملات رقمية حكومية تُحاول فرض سيطرة جديدة،
أو مبادلات تتم خارج النظام البنكي،
أو حتى عودة فعلية للتداول بالذهب في بعض المجتمعات المغلقة أو المتضررة.
لأن الذهب، ببساطة، لا يحتاج إلى ثقة... بل هو الثقة بحد ذاتها.
وختامًا...
من 2017 إلى 2025، لم يتغيّر الذهب... بل تغيّرنا نحن.أصبحنا أقلّ ثقة، أكثر حذرًا، وأكثر ميلًا لما لا يمكن تزويره.
في النهاية، حين تشتعل الحرائق حول العالم، لا تبحث الشعوب عن شاشات... بل عن شيء يمكنها لمسه، حمله، والاحتماء به.وهذا الشيء... كان ولا يزال: الذهب.




Comments