القمار الإلكتروني في العراق... إدمان ناعم يهدد المجتمع
- د.علي الراوي
- Jun 1
- 6 min read
لم يكن القمار يومًا مجرد لعبة، بل هو أحد أقدم أشكال الإغراء البشري المرتبط بالمجهول، تلك الرغبة القديمة في ربح سريع بلا جهد، و"ضربة حظ" تغيّر المصير. لكن في الماضي، كان الوصول إلى طاولة القمار يتطلب السفر، مالًا كثيرًا، أو التسلل إلى أماكن مغلقة ذات أبواب حديدية، محاطة بالشبهات والقيود.أما اليوم، فكل ما تحتاجه هو هاتف متصل بالإنترنت، وكلمة سر، وبعض الرصيد… لتصبح مقامرًا.
من كازينوهات لاس فيغاس إلى شاشات الهواتف
في العقدين الأخيرين، ومع تصاعد قوة الإنترنت والتكنولوجيا المالية، انتقلت كازينوهات العالم إلى الفضاء الإلكتروني، وتحوّلت إلى مواقع وتطبيقات تقدم كل شيء:الروليت، البوكر، البلاك جاك، السلوت، المراهنات الرياضية، وحتى ألعاب الحظ "المجانية" التي تنتهي برابط دفع حقيقي.
هذه المنصات لم تعد محصورة بالدول التي تسمح بالقمار قانونيًا، بل بدأت تتوسع في الأسواق الهشّة والبلدان النامية، حيث الرقابة ضعيفة، والوعي المجتمعي منخفض، والوضع الاقتصادي يغري أي شخص بتجربة "فرصة أخيرة".
ما حدث في العراق لم يكن صاخبًا، بل خطيرًا في صمته.في ظل الانشغال بالوضع الأمني، السياسي، وتردي الأوضاع المعيشية، تسللت مئات المواقع والتطبيقات إلى الهواتف العراقية، بعضها بواجهات عربية، وبعضها تديره جهات مجهولة، وتعمل كأنها جزء طبيعي من عالم الإنترنت.
اليوم، تستطيع أن تجد:
طفلًا بعمر 12 عامًا يملك حسابًا على موقع مراهنات
شابًا عاطلًا يعتبر المراهنة على المباريات مصدر رزق مؤقت
ربّ أسرة يودع راتبه في لعبة سلوتز محاولًا استرجاع خسائر سابقة
الأمر لم يعد محصورًا بـ"شباب ضائعين"، بل دخل البيوت، واستولى على عقول البعض، وأصبح بمتناول الجميع دون استثناء.
لماذا هذا خطر غير مرئي؟
لأن القمار الإلكتروني لا يترك أثرًا مباشرًا مثل المخدرات، ولا يُكتشف بسهولة، ولا يُعدّ جريمة واضحة في نظر الكثيرين.لكنه يسرق المال، الوقت، العلاقات، والعقل... بهدوء.
هذه المقدمة ليست لإخافتك، بل لتنبيهك.لأن ما يجري الآن، إن لم يُواجه بوعي ورقابة، سيكلّف العراق أثمانًا اجتماعية واقتصادية باهظة.

حين يصبح الإدمان رقميًا... والعقل رهينة شاشة
القمار ليس فقط لعبة حظ، بل هو فلسفة مغلّفة بالإثارة.إنه الوعد السريع بثروة لا تحتاج إلى تعب، والفخ الناعم الذي يُخاطب أضعف ما في الإنسان: رغبته في السيطرة على المجهول.
لكن عندما انتقل القمار من صالات الكازينو إلى الفضاء الرقمي، حدث أمر خطير…زالت الحواجز، وتلاشت الحدود، وأصبح الإدمان مجرد "نقرة".
لماذا يُدمن الناس القمار الإلكتروني؟ (الاقتصاد النفسي للرغبة)
الإنسان بطبعه يميل إلى التحفيز الفوري، يحب الشعور الفوري بالمكافأة.وفي القمار، لا تحتاج إلى خطة، ولا دراسة، ولا صبر. فقط مخاطرة.وهذا ما يجعل مواقع القمار الإلكتروني أخطر حتى من البورصات أو العملات المشفّرة، لأنها لا تدّعي حتى أنها علم… بل تبيعك الحظ!
ويزداد الخطر حين يُصاب اللاعب بـ"الوهم التراكمي"، وهو:
أنه خسر كثيرًا، وبالتالي أصبح أقرب للفوز
أو أنه فاز مرة، إذًا سيكررها بسهولة
أو أنه عنيد، لا يقبل أن يخرج خاسرًا
هنا يتحوّل القمار إلى ما يشبه حلقة مغلقة نفسية، لا يستطيع الإنسان الخروج منها دون أن يخسر نفسه أولًا.
البُعد الاقتصادي: حين تتحول الأموال إلى وقود للإدمان
لا يمكن فصل القمار الإلكتروني عن النظام المالي، لأنه في جوهره عملية سحب أموال من أفراد إلى كيانات مجهولة.ولعلّ المفارقة المرعبة أن هذه المواقع:
لا تخلق وظائف حقيقية
لا تسهم في الناتج المحلي
لا تدفع ضرائب
لا تُخضع نفسها لأي محاسبة قانونية
ومع ذلك، تُحقّق أرباحًا تتجاوز ملايين الدولارات سنويًا من العراق وحده.
تخيل أن مراهقًا من بغداد يُرسل يوميًا 10 أو 20 ألف دينار إلى موقع مراهنات… وتضرب هذا الرقم في مئات الآلاف من المستخدمين.أموال تتسرّب خارج البلاد بلا أي فائدة، سوى تعميق الخسارة المجتمعية.
البُعد الفلسفي: من السيطرة على المال إلى خضوع الإنسان له
القمار في جوهره علاقة مقلوبة بين الإنسان والمال.في الحياة الطبيعية، المال وسيلة.لكن في القمار، المال يتحوّل إلى هدف لا يُقاوم.وتتحوّل "اللعبة" إلى طقس يشبه العبادة: إيداع، انتظار، أمل، خيبة، ثم تكرار…حتى يصبح القمار أسلوب حياة، لا هواية.
والخطر الحقيقي لا يكمن فقط في الأموال المهدورة، بل في تفريغ الإنسان من قدرته على الانتظار، والكفاح، والتمييز بين القيمة والوهم.
القمار والأطفال: جيل يولد والإدمان في جيبه
حين تسأل طفلًا اليوم عن اسم موقع ألعاب، قد يذكر لك اسم كازينو إلكتروني دون أن يعلم ما هو.فقد أصبح من السهل جدًا على الأطفال:
الدخول لهذه المواقع دون تحقق حقيقي من العمر
استخدام بطاقات ذويهم أو تطبيقات الدفع
التعرّف عليها من خلال "يوتيوبرز" مشهورين يروّجون لها ضمنيًا
نحن أمام جيل ينشأ على ثقافة الحظ بدل ثقافة الجهد.جيل قد يعتقد أن الطريق إلى المال هو مراهنة، لا مشروع.
التأثير المجتمعي: التفكك يبدأ من وهم الربح
تبدأ القصة بلعبة… وتنتهي بطلاق، أو ديون، أو جريمة.
لقد سجلت حالات في العراق لأشخاص باعوا ذهب زوجاتهم، أو اقترضوا من أصدقائهم، أو هددوا أسرهم للحصول على المال… لا لشراء دواء، بل للدخول مجددًا إلى موقع خسروا فيه كل شيء من قبل.
هذه ليست مبالغات. إنها علامات مبكرة لانهيار التماسك المجتمعي، حين تتحول العائلة من ملجأ نفسي إلى ساحة ضغط مالي.
أرقام مخيفة… وصمت رسمي
القمار الإلكتروني لم يعد هامشًا رقميًا، بل أصبح صناعة عالمية عملاقة، تُحرّكها خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتُغذيها بيانات المستخدمين، وتُموّلها أحلام الفقراء بالثراء السريع.
وفقًا لتقرير صادر عن Statista ومؤسسات دولية مثل [Market Research Future] و[IBISWorld]، فقد بلغ حجم سوق القمار الإلكتروني العالمي:
45.8 مليار دولار في عام 2018
ليرتفع إلى أكثر من 107 مليار دولار في عام 2024، بزيادة تتجاوز 133% خلال ست سنوات فقط
ومن المتوقع أن يتجاوز حاجز 150 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2028
وهذه الأرقام تمثل فقط السوق المنظم… أما السوق غير القانوني، فلا يُمكن حتى تقدير حجمه بدقة، لكنه يُقدّر بمليارات إضافية.
أين العراق من هذه الأرقام؟
رغم عدم وجود إحصاءات رسمية، تشير التقديرات الميدانية من خبراء الاقتصاد والسلوك الرقمي إلى ما يلي:
يُقدّر عدد المستخدمين النشطين لمواقع المراهنات داخل العراق بما لا يقل عن 700,000 إلى 1,000,000 مستخدم.
تُحوَّل مبالغ شهرية تترواح بين 4 إلى 6 مليون دولار إلى هذه المواقع.
ما يعني أن الخسارة السنوية للعراق من العملة الصعبة عبر القمار الإلكتروني قد تتجاوز 70 مليون دولار سنويًا — وهذا في أدنى تقدير.
لكن الكارثة ليست في الرقم فقط، بل في نوع المال المسحوب:رواتب، مدخرات، قروض، وحتى بيع ممتلكات شخصية.
من الرابح الحقيقي؟
الرابح ليس من يُراهن، بل من يُدير المنصة:
شركات القمار الإلكتروني لا تحتاج إلى مصانع، ولا توظف آلاف العاملين، بل تُدير أرباحها من خلال خوارزميات تُبرمج احتمالات الربح والخسارة.
نسبة أرباح بعض هذه المنصات تصل إلى 30-40% من كل مبلغ يتم إنفاقه فيها.
تُدرج مقارّها في دول الملاذات الضريبية، وتُسجَّل أحيانًا تحت غطاء "شركات ألعاب أو تسويق رقمي".
ما لا يُقال…
من المثير للقلق أن هذه الأرقام العالمية تتنامى في ظل صمت حكومي على المستوى المحلي والإقليمي، بل إن بعض المنصات بدأت تستهدف المجتمعات الهشّة والإسلامية باللغة العربية، مع حملات ترويجية توظّف وجوهًا مألوفة على "السوشال ميديا".
المخطط التالي يوضح تصاعد حجم سوق القمار الإلكتروني عالميًا:

ما الذي يجب فعله؟ – خارطة طريق لمواجهة القمار الإلكتروني
إذا كان القمار الإلكتروني قد انتشر في العراق بصمت، فإن مواجهته لا يمكن أن تكون إلا بصوتٍ عالٍ، واضح، ومدروس.ما نواجهه ليس تطبيقًا على الهاتف، بل ظاهرة اقتصادية واجتماعية ونفسية تتسلل إلى البيوت، وتعيد تشكيل ثقافة الأمل والعمل، وتحولها إلى رهان وصندوق حظ.
1. الدولة: من الحياد إلى التحرك
لا يمكن لأي مجتمع أن يُحارب القمار الإلكتروني بالفتاوى فقط، ولا بالإنكار، بل عبر قرارات فعلية تشمل:
أ. تشريع قانون صريح يجرّم القمار الإلكتروني
يجب ألا تظل هذه المواقع في المنطقة الرمادية قانونيًا.
تجريم التعامل معها ومع مروّجيها بشكل مباشر، مع تحديد عقوبات واضحة.
ب. مراقبة التحويلات المشبوهة
التعاون بين البنك المركزي، شركات الدفع الإلكتروني، وهيئة الإعلام والاتصالات لتتبع الأموال المحوّلة إلى جهات غير مرخصة.
إغلاق الحسابات والمحافظ الرقمية التي تُستخدم لأغراض المقامرة.
ج. حجب المنصات والتطبيقات المخصصة للقمار
هناك دول عديدة حجبت مئات المواقع بنقرة واحدة.
العراق يمتلك من الوسائل التقنية ما يُمكنه من السيطرة الرقمية على مثل هذه المنصات إذا توفّرت الإرادة.
د. إنشاء هيئة رقابة رقمية مختصة
تضم اقتصاديين، أخصائيي سلوك، تقنيين قانونيين، لمتابعة الظواهر الرقمية المالية المشبوهة، ومنها القمار، الفوركس المزيف، والكريبتو الاحتيالي.
2. الإعلام: من الترفيه إلى التنوير
لا يكفي أن تُبث برامج اجتماعية تتحدث عن الزواج والموضة، في وقت ينزف فيه مجتمع بأكمله من الداخل بصمت.
إنتاج برامج توعوية حقيقية تشرح مخاطره بلغة قريبة من الشباب.
كشف خدع مواقع القمار وكيف تخلق وهم الفوز.
منع أي محتوى ترويجي مباشر أو غير مباشر للقمار حتى لو كان "ضمنيًا" في ألعاب الأطفال أو محتوى المؤثرين.
3. المجتمع: من التجاهل إلى المواجهة
العائلة ليست فقط الضحية، بل أحيانًا تكون أول غفلة.
على الأهل مراقبة تطبيقات أبنائهم، والتحقق من حساباتهم المصرفية وألعابهم الرقمية.
يجب أن تكون هناك جلسات أسرية حقيقية عن المال، القيم، والجهد، وليس فقط عن الدرجات المدرسية والمواعظ الدينية.
4. التعليم: زرع مناعة فكرية في الأجيال
يجب تضمين موضوع "خداع الثروة السريعة" ضمن مناهج المدارس والجامعات.
تعليم الطلاب الفرق بين الاستثمار الحقيقي والمقامرة، بين المخاطرة المحسوبة والتهور الأعمى.
5. الأفراد: لا تكن اللاعب الصامت في لعبة تُديرك
لكل شخص مسؤولية فردية.القانون قد يمنع، والإعلام قد يُحذّر، لكن الإرادة تبدأ منك.
اسأل نفسك: هل هذه لعبة؟ أم طريق لخسارة عقلي ومالي وعلاقاتي؟
هل أرغب بأن أُصبح ضحية رقم جديد، أم نموذجًا للوعي والانضباط؟
شارك تجربتك، أو تجربة من حولك، لتكون رسالة حياة لغيرك.
لنُنقذ جيلًا قبل أن يُصبح أمة مدمنة على الوهم
القمار الإلكتروني ليس موجة عابرة، بل تهديد ثقافي ومالي واجتماعي.إنه لا يُحطم الجيوب فقط، بل يقتل الإيمان بالعمل، ويشوّه فكرة النجاح، ويُدخلنا في دائرة خاسرة لا تنتهي.
مهمّتنا اليوم ألا نغلق أعيننا، بل أن نفتح عقولنا.ألا نلوم الضحايا، بل نحميهم.وألا ننتظر الكارثة لتقرع الأبواب، بل نمنعها من الأساس.
لعلّ هذا المقال ليس نهاية الحديث… بل بدايته.
Comments