top of page
Search

الاقتصاد الأمريكي بين الدين والطباعة: من يدفع الثمن؟

  • Writer: د.علي الراوي
    د.علي الراوي
  • May 20
  • 6 min read



في عالمٍ تُقاس فيه القوة بالأرقام، ويُعاد تعريف القيمة وفق من يملك أدوات الطباعة، يقف الاقتصاد الأمريكي كأكبر مُنتج للنقود في التاريخ، لا لأنه يصنع ذهبًا أو ينتج طاقة أو يملك فائضًا تجاريًا… بل لأنه ببساطة يملك ماكينة طباعة الدولار.

لقد تجاوزت الولايات المتحدة مفهوم "الغطاء المالي" منذ أكثر من نصف قرن، وخلقت نظامًا نقديًا لا يستند إلى معادن، ولا إلى إنتاج فعلي، بل إلى هندسة نفسية جماعية تُسمّى "الثقة".هذه الثقة ليست مجانية. إنها أغلى ما في السوق، ومع ذلك تُمنح طوعًا للعَلم الأخضر الذي يرفرف فوق كل عقود النفط، وصفقات السلاح، وسندات الدين في العالم.

فالدولار لم يعد عملة قومية، بل سلعة عالمية، وأداة سيطرة اقتصادية، ومفتاحًا لأي دولة تريد البقاء في شبكة التبادل الدولي. وما دامت أمريكا تملك الحق في إصدار هذه السلعة دون سقف، فإنها تملك الحق – ضمنيًا – في أن تستدين كما تشاء، وتُسدّد كما تشاء، وتُخضع العالم اقتصاديًا… لا عبر الغزو، بل عبر تدفّق الأوراق الخضراء.

لكن هذه اللعبة ليست خالية من التكاليف. فكل ورقة جديدة تُطبع دون مقابل إنتاجي، تُضعف القيمة الحقيقية للعمل، وتُصدّر التضخم إلى دول العالم، وتُراكم الدين على أكتاف الأجيال القادمة.وكل تمدّد للمعروض النقدي دون توازن يُعيد طرح السؤال العميق: من يدفع الثمن الحقيقي لهذا النظام؟

هل هو العامل الأمريكي الذي تتآكل قدرته الشرائية؟أم الدولة النامية التي تراكم ديونها بالدولار؟أم النظام العالمي بأسره الذي يقف على حافة ثقة قابلة للتبخّر؟

في هذا المقال، لا نبحث فقط في الأرقام، بل نحاول قراءة فلسفة النظام… ذلك الذي حوّل الطباعة إلى مصدر سلطة، والورق إلى مِفتاحٍ للسوق، والدَّين إلى سلاح ناعم لا يُرى... لكنه يُحكم.



ree



من الذهب إلى الورق... ولادة النظام القائم على "الثقة"

في عام 1944، وفي بلدة صغيرة تُدعى بريتون وودز في ولاية نيوهامبشر الأمريكية، اجتمع قادة 44 دولة ليرسموا ملامح نظام مالي جديد لما بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت النتيجة: اتفاقية "بريتون وودز"، التي وضعت الدولار الأمريكي في قلب النظام المالي العالمي، وربطت قيمته بالذهب بسعر ثابت (35 دولارًا للأونصة)، بينما ربطت باقي العملات الوطنية بالدولار نفسه.

للمرة الأولى في التاريخ، تصبح هناك عملة واحدة تُستخدم مرجعًا للعالم بأسره. ولكن هذا النظام لم يكن مستدامًا. فقد كانت الولايات المتحدة تطبع دولارات أكثر من احتياطياتها الحقيقية من الذهب، بحجة تمويل حروبها (فيتنام مثلًا)، ودعم توسعها العالمي.

ثم جاءت اللحظة الفاصلة...

في عام 1971، أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون رسميًا فك ارتباط الدولار بالذهب، في ما بات يُعرف بـ"صدمة نيكسون" (Nixon Shock). لم يعد الدولار قابلًا للتحويل إلى ذهب، لا محليًا ولا دوليًا. وتحول فجأة من عملة مغطاة بأصل ثمين… إلى مجرد ورقة نقدية تحمل توقيع الثقة بالحكومة الأمريكية.

وهنا بدأت القصة التي نعيش فصولها حتى اليوم.


الطباعة بلا قيد… حين أصبحت "الثقة" هي الغطاء الوحيد

في الأنظمة الاقتصادية التقليدية، تكون النقود وسيلة لتبادل قيمة حقيقية، وتستمد قوتها من ندرتها ومن تغطيتها بأصول (ذهب، فضة، إنتاج، عمل). لكن مع تحول الدولار إلى عملة "فيات" (Fiat)، أصبحت قيمته مستندة فقط إلى السلطة السيادية التي تصدره، وإلى القبول العام باستخدامه كوسيلة دفع.

هذه النقلة الفلسفية العميقة لم تكن بلا ثمن. فقد فتحت الباب أمام ما يُعرف بـ"التيسير الكمي" (Quantitative Easing)، أي قدرة البنك المركزي الأمريكي على خلق أموال جديدة من العدم، وضخّها في السوق لشراء الأصول، وتمويل الديون، وتحفيز الاقتصاد.

لكن هل هذه الطباعة مجانية؟ وهل العالم لا يدفع ثمنًا لها؟

بل إن كل ورقة يتم ضخّها دون مقابل إنتاجي تؤدي إلى:

  • تآكل قيمة الدولار نفسه داخليًا.

  • تصدير التضخم إلى الدول المرتبطة به خارجيًا.

  • توسيع الفجوة بين القيمة الاسمية للنقود وقيمتها الحقيقية.

لقد أصبحت أمريكا قادرة على تمويل عجوزاتها ودفع فوائد ديونها بطباعة المزيد من الدولارات، في لعبة لا يستطيع أحد غيرها ممارستها، لأن الجميع يستخدم عملتها!


لمحة عددية تُعبّر عن حجم الطباعة:

  • عام 2008: كان المعروض النقدي الأساسي (M0) حوالي 800 مليار دولار.

  • عام 2020: قفز إلى أكثر من 4 تريليون دولار بسبب أزمة كورونا.

  • عام 2024: بلغ حوالي 5.78 تريليون دولار، في أعلى مستوياته بالتاريخ.

أما الدين العام الأمريكي، فقد تخطى حاجز 34 تريليون دولار، أي أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن لا أحد يقلق… لأنهم ببساطة يستطيعون طباعته.



الرسم البياني يوضح تطوّر حجم المعروض النقدي الأساسي (M0) في الولايات المتحدة
الرسم البياني يوضح تطوّر حجم المعروض النقدي الأساسي (M0) في الولايات المتحدة



ديون بلا نهاية… والدولار سيد اللعبة أم ضحيّتها القادمة؟

لو أن دولةً ما في هذا العالم وصلت ديونها إلى أكثر من 34 تريليون دولار، أي ما يفوق ناتجها المحلي، لكان العالم قد قرع أجراس الإنذار… وخفّض تصنيفها الائتماني، وتوقّع انهيارها في أي لحظة.لكن هذه الدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية، والدين العام الذي يهدد كل الاقتصادات الأخرى… لا يهددها هي.

لماذا؟لأنها الدولة الوحيدة في التاريخ التي تستدين بالدولار… وتسدّد بالدولار… وتطبع الدولار.


🧾 الدَّين الأمريكي: هندسة لا تُشبه أحدًا

الدين العام الأميركي ليس مجرد أرقام تتضخم على ورق. إنه نظام متكامل مبني على علاقات معقدة:

  • تصدر وزارة الخزانة سندات حكومية.

  • تشتريها البنوك والمؤسسات المحلية والدولية (مثل الصين واليابان).

  • يشتريها أيضًا الاحتياطي الفيدرالي… بأموال طُبعت حديثًا!

بمعنى آخر، جزء من ديون أمريكا… تُموَّل من المال الذي خُلق من لا شيء.

وهكذا تبقى عجلة الاقتصاد تدور، ويستمر الدولار في السيطرة، طالما لا أحد يجرؤ على الانسحاب من هذه اللعبة.لكن مثل أي لعبة، كلما زادت السرعة، كلما أصبح الخروج أكثر خطورة.

من يمول العجز الأمريكي؟ نظرة على كبار حاملي سندات الخزانة

تُعد سندات الخزانة الأمريكية أداة رئيسية لتمويل العجز الفيدرالي، حيث تعتمد الحكومة الأمريكية على بيع هذه السندات لتغطية نفقاتها المتزايدة. حتى مارس 2025، بلغ إجمالي حيازات الأجانب من هذه السندات مستوى قياسيًا قدره 9.05 تريليون دولار، بزيادة قدرها 12% عن العام السابق .

فيما يلي قائمة بأكبر الدول الحائزة لسندات الخزانة الأمريكية:

الترتيب

الدولة

القيمة (مليار دولار)

1

اليابان

1,130.8

2

المملكة المتحدة

779.3

3

الصين

765.4

4

لوكسمبورغ

455.3

5

جزر كايمان

426.2

6

كندا

412.4

7

سويسرا

402.1

8

أيرلندا

363.1

9

بلجيكا

329.3

10

فرنسا

311.6

تُظهر هذه البيانات تحولًا ملحوظًا في مراكز الحيازة، حيث تجاوزت المملكة المتحدة الصين لتصبح ثاني أكبر حائز لسندات الخزانة الأمريكية 



🌎 الاقتصاد العالمي في قبضة الدولار

أكثر من 58% من احتياطي البنوك المركزية في العالم ما زال بالدولار.وحوالي 88% من معاملات الفوركس العالمية تتم باستخدامه.وكل برميل نفط يُباع في الأسواق الدولية… يُسعّر ويُدفع بالدولار.

هذه الحقيقة تمنح أمريكا قدرة خارقة:إذا طبعت المال، فإن التضخم لا يبقى داخل حدودها فقط… بل يُصدَّر إلى العالم أجمع.

الدول الفقيرة تُجبر على شراء الدولار لتمويل وارداتها.الدول المتوسطة تُجبر على ربط عملاتها بالدولار لحماية استقرارها.والدول الغنية… تستثمر في سندات الخزانة الأمريكية، وتُموّل عجز أمريكا، بدافع الخوف لا الثقة.


📉 التضخم الصامت: السلاح الذي لا يُرى

من يدفع الثمن إذن؟الجواب بسيط… ومعقّد في آنٍ واحد.

  • يدفعه المواطن الأمريكي البسيط الذي يرى راتبه يتآكل مع الوقت.

  • ويدفعه المواطن العربي أو الآسيوي الذي تُستورد سلع بلاده بالدولار، فيرتفع سعرها محليًا.

  • ويدفعه الاقتصاد العالمي، الذي يختل توازنه مع كل موجة طباعة جديدة.

الطباعة المفرطة لا تخلق فقط تضخمًا رقميًا، بل تُنتج تضخمًا أخلاقيًا في النظام المالي — حيث لم يعد الجهد والعمل هو أساس القيمة، بل القدرة على طبع المال وإقناع الآخرين بقبوله.


🚨 هل نحن أمام فقاعة كونية؟

قد تبدو الأمور تحت السيطرة اليوم…لكن حتى أكبر البالونات تنفجر إن واصلت التوسع دون توقف.

  • ماذا لو فقد العالم ثقته بالدولار؟

  • ماذا لو طالبت الصين بتصفية حيازاتها من سندات الخزانة؟

  • ماذا لو خرجت قوة مالية جديدة (مثل البريكس) ببديل فعلي للدولار في التجارة العالمية؟

حينها فقط ستتجلى الحقيقة:أن النظام بأكمله قائم على "اتفاق وهمي" بأن هذه الورقة الخضراء تساوي شيئًا.




من يملك آلة الطباعة... يملك العالم؟

قد تبدو العبارة مبالغة، لكنها، من منظور اقتصادي وسياسي، أقرب إلى الحقيقة منها إلى المجاز.من يملك القدرة على طباعة العملة الاحتياطية العالمية، يملك حق فرض الإيقاع على بقية الاقتصاديات، حتى وإن كان مثقلًا بالديون، يعاني من عجز تجاري، أو يُضخّم نقديًا فوق المعدلات المقبولة.

في لعبة المال الحديثة، لم تعد الثروة تُقاس بما تملك… بل بما تستطيع إقناع الآخرين بأنه يملك قيمة.


💵 الدولار: احتكار ناعم للهيمنة

الولايات المتحدة لا تملك فقط الدولار، بل تملك حق تعريف القيمة في السوق العالمي.حينما تُقاس السلع بالدولار، ويُسعّر النفط بالدولار، وتُموّل التجارة بالدولار، وتُقترض الديون وتُسدد بالدولار…فهي لم تعد بحاجة لاحتياطي ذهبي، بل تحتاج فقط إلى استمرار الطلب على ورقتها.

وهنا تكمن المفارقة: كلما زادت حيازات العالم لسندات الخزينة الأمريكية – كما في الجدول السابق – زاد اعتماده على استقرار الدولار.وبالتالي، يتحوّل الدائن إلى رهينة... يخشى انهيار العملة التي يملك منها الكثير.


توزيع احتياطيات العملات العالمية في عام 2024
توزيع احتياطيات العملات العالمية في عام 2024
  • US Dollar (USD): ‏58.4%

  • Euro (EUR): ‏19.9%

  • Japanese Yen (JPY): ‏5.5%

  • British Pound (GBP): ‏4.6%

  • Others: ‏11.6%


🧠 فلسفة الهيمنة النقدية

السؤال الفلسفي هنا ليس "كم تملك أمريكا من الذهب؟"، بل "كم يثق العالم في ورقتها؟"

وهذا يضعنا أمام معادلة جديدة:

القيمة لم تعد في المال، بل في الثقة بالجهة التي تُصدره.

إن الولايات المتحدة تُموّل العجز وتسدّد الديون وتشتري الأصول… بأموال تطبعها بنفسها، وتفرض قبولها على الجميع.ولو حاولت دولة أخرى تقليد هذا السلوك، لتعرضت لانهيار عملتها، وهروب المستثمرين، وربما حتى لعقوبات اقتصادية.


🔄 متى تنتهي هذه اللعبة؟

حتى الآن، لا يبدو أن هناك نهاية قريبة.

  • الصين لا تريد إسقاط الدولار، لأنها تملك منه تريليونات.

  • الدول النامية لا تجد بديلًا عمليًا.

  • أوروبا تفتقد الوحدة النقدية الكافية.

  • الذهب والبتكوين غير جاهزين بعد للعب دور العملة التجارية الكبرى.

لكن ما بُني على الثقة… قد ينهار بلحظة شك.

لو تحرّكت الاقتصادات الكبرى فعلًا نحو التخلص من الاعتماد على الدولار، أو قررت البريكس استخدام عملات بديلة، أو ظهرت أزمة مالية عالمية تُفقد الناس ثقتهم بالدولار…فقد نكون أمام لحظة حاسمة، تشبه ما حدث في 1971، ولكن بالعكس…انفصال جديد، لا عن الذهب، بل عن الورقة الخضراء.


🧾 خاتمة المقال:

الدولار اليوم ليس عملة… بل فلسفة.ليس مجرد ورقة… بل شبكة من العلاقات والمصالح والثقة المصطنعة.وما دامت أمريكا تملك آلة الطباعة، فهي تملك القدرة على شراء الزمن… لكن ليس إلى الأبد.

لأن العالم، ولو تأخّر… يبدأ أخيرًا في طرح السؤال الذي يُرعب الطغاة:لماذا نثق بهذه الورقة؟

 
 
 

1 commento


Quteyba Alkhateeb
Quteyba Alkhateeb
02 giu

يتضمن المقال عرضا لبعض الوقائع الحالية للنظام المالي العالمي وتحليلا نقديا إستشرافيّا لاحتمالات المآل المستقبلية مساهما بالمزيد من الإيضاح لهذا النظام المعقد المواري للكثير من حقائقه بغية إدامة السيطرة المطلقة على حركة أموال البشرية. كل المعلومات التي اطلعتُ عليها في المقالات والكتب المنشورة - التي قرأتها منذ نهاية السبعينات ولحد الآن - تكاد تُجمع على ذكر الدَّين العام والمَدين وإغفال أو تجنّب ذكر الدائن الحقيقي، والسؤال الذي يتبادر وتبادرَ إلى ذهني منذ أوائل المقالات التي قرأتها " من هو الدّائن ولماذا يُسكتُ عنه"، لغز الأحجية الذي يكشف عن أقدم وأكبر جريمة ومؤامرة ضد سعادة البشريّة (الرّبا).

Modificato
Mi piace
bottom of page